ولد الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في ٢٤ كانون الثاني عام ١٩٢٦ بقرية جيكور جنوب شرق البصرة . درس الابتدائية في مدرسة باب سليمان في أبي الخصيب ثم انتقل إلى مدرسة المحمودية وتخرج منها في 1 أكتوبر ١٩٣٨م. ثم أكمل الثانوية في البصرة ما بين عامي ١٩٣٨ و١٩٤٣م. ثم انتقل إلى بغداد فدخل جامعتها دار المعلمين العالية من عام ١٩٤٣ إلى ١٩٤٨م، والتحق بفرع اللغة العربية، ثم الإنجليزية. ومن خلال تلك الدراسة أتيحت له الفرصة للإطلاع على الأدب الإنجليزي بكل تفرعاته.
حياتــــــــــه
عاش بدر طفولة سعيدة غير إنها قصيرة سرعان ما تحطمت إذ توفيت أمه عام ١٩٢٣ أثناء المخاض لتـترك أبناءها الثـلاثة وهى في الثالثة والعشرين من عمرها. وبدا بدر الحزين يتساءل عن أمه التي غابت فجأة، وكان الجواب الوحيد: ستعود بعد غد فيما يتهامس المحيطون به: أنها ترقد في قبرها عند سفح التل عند أطراف القرية وغابت تلك المرأة التي تعلق بها ابنها الصغير،
وكان يصحبها كلما حنت إلى أمها، فخفت لزيارتها، أو قامت بزيارة عمتها عند نهر بويب حيث تملك بستانا صغيرا جميلا على ضفة النهر، فكان عالم بدر الصغير تلك الملاعب التي تمتد بين بساتين جيكور ومياه بويب وبينها ما غزل خيوط عمره ونسيج حياته وذكرياته وما كان أمامه سوى اللجوء إلى جدته لأبيه (أمينة) وفترة علاقته الوثيقة بأبيه بعد أن تزوج هذا من امرأة أخرى سرعان ما رحل بها إلى دار جديدة بعيدا عن بدر وأخـويه، ومع أن هذه الدار في بقيع أيضا، غير أن السياب أخويه انضموا إلى دار جده في جيكور القرية الأم،
ويكبر ذلك الشعور في نفس بدر بأنه محروم مطرود من دنيا الحنو الأمومي ليفر من بقيع وقسوتها إلى طرفه تدسها جدته في جيبه أو قبلة تطبعها على خده تنسيه ما يلقاه من عنت وعناء، غير أن العائلة
تورطت في مـشكلات كبيرة ورزحت تحت عبء الديون، فبيعت الأرض تدريجيا وطارت الأملاك ولم يبق منها إلا القليل يذكر بالعز القديم الذي تشير إليه الآن أطلال بيت العـائلة الشاهق المتحللة ويذهب بدر إلى المدرسة، كان عليه أن يسير ماشيا إلى قرية باب سليمان غرب جيكور لينتقل بعدها إلى المدرسة المحمودية الابتدائية للبنين في أبي الخصيب التي شيدها محمود جلبي العبد الواحد أحد أعيان أبي الخصيب، وكان بالقرب من المدرسة البيت الفخم الذي تزينه الشرفات الخشبية المزججة بالزجاج الملون الشناشيل والتي ستكون فيما بعد اسما لمجموعة شعرية متميزة هي شناشيل ابنة الجلبي- الجلبي لقب للأعيان الأثرياء- وفى هذه المدرسة تعلم أن يردد مع أترابه أهزوجة يرددها أبناء الجنوب عند هطول المطر، ضمنها لاحقا في إحدى قصائده :
يا مطرا يا حلبي عبر بنات الجلبي يا مطرا يا شاشا عبر بنات الباشا
وفى هذه المرحلة المبكرة بدأ ينظم الشعر باللهجة العراقية الدارجة في وصف الطبيعة أو في السخرية من زملائه، فجذب بذلك انتباه معلميه الذين شجعوه على النظم باللغة الفصيحة، وكانت العطلة الصيفية التي يقضيها في جيكور مجلبة لسروره وسعادته إذ كان بيت العبيد الذي غدا الآن مهجورا، المكان المحبب للعبهم برغم ما يردده الصبية وخيالهم الفسيح عن الأشباح التي تقطنه وكانت محبة جدته أمينة تمنحه العزاء والطمأنينة والعطف غير انه سرعان ما فقدها إذ توفيت في أيلول ١٩٤٢ ليكتب في رثائها قصيدة:
جدتي من أبث بعدك شكواي؟ طواني الأسى وقل معيني أنت يا من فتحت قلبك بالأمس لحبي أوصدت قبرك دوني فقليل على أن اذرف الدمع ويقضى على طول أنيني
كتب السياب خلال تلك الفترة قصائد مترعة بالحنين إلى القرية والى الراعية هالة التي احبها بعد زواج وفـيقة ويكتب قصائده العمودية أغنية السلوان وتحية القرية.. الخ
في ذلك الوقت يلتقي امرأة يحبها وهي لاتبادله هذا الشعور فيكتب لها فهو ذاك الغلام ضاو نحيل كأنه قصبة، ركب رأسه المستدير كحبة الحنظل، على عنق دقيقة تميل إلى الطول، وعلى جانبي الرأس أذنان كبيرتان، وتحت الجبهة المستعرضة التي تنزل في تحدب متدرج أنف كبير يصرفك عن تأمله العينين الصغيرين العاديتين على جانبيه فم واسع، تبز (الضبة) العليا منه ومن فوقها الشفة بروزا يجعل انطباق الشفتين فوق صفي الأسنان كأنه عما اقتساري وتنظر مرة أخرى إلى هذا الوجه الحنطي فتدرك أن هناك اضطرابا في التناسب بين الفك السفلي الذي يقف عند الذقن كأنه بقية علامة استفهام مبتورة وبين الوجنتين الناتئتين وكأنهما بدايتان لعلامتي استفهام أخرىين قد انزلقتا من موضعيهما الطبيعيين
فكتب حينها ...
أبي.. منه جردتني النساء وأمي.. طواها الردى المعجل ومالي من الدهر إلا رضاك فرحماك فالدهر لا يعدل
ويكتب لها بعد عشرين عاما- وكانت تكبره عمرا- يقول
وتلك.. لأنها في العمر أكبر أم لأن الحسن أغراها بأني غير كفء خلفتني كلما شرب الندى ورق وفتح برعم مثلتها وشممت رياها؟
وتزداد شهرة بدر الشاعر النحيل القادم من أقصى قـرى الجنوب، وكانت الفتيات يستعرن الدفتر الذي يضم أشعاره ليقرأنه، فكان يتمنى أن يكون هو الديوان
ويتعرف السياب على شعر وود زورت وكيتس وشيلى بعد أن انتقل إلى قسم اللغة الإنجليزية ويعجب بشعر اليوت واديث سيتويل ومن ثم يقرأ ترجمة لديوان بودلير أزهار الشر فتستهويه ويتعرف على فتاة أضحت فيما بعد شاعرة معروفة غير أن عائق الدين يمنع من لقائهما فيصاب بإحباط آخـر، فيجـد سلوته في الانتماء السياسي الذي كانت عاقبته الفـصل لعـام دراسي كامل من كليته ومن ثم سجنه عام ١٩٤٦ لفترة وجيزة أطلق سراحه بعدها ليسجن مرة أخرى عام ١٩٤٨ بعد أن صدرت مجموعته الأولى أزهار ذابلة بمقدمة كتبها روفائيل بطي أحد رواد قصيدة النثر في العراق عن إحدى دور النشر المصرية عام ١٩٤٧ تضمنت قصيدة هل كان حبا حاول فيها أن يقوم بتجربة جديدة في الوزن والقافية تجمع بين بحر من البحور ومجزوءاته أي أن التفاعيل ذات النوع الواحد يختلف عددها من بيت إلى آخر وقد كتب روفائيل بطي مقدمة للديوان قال فيها نجد الشاعر الطليق يحاول جديدا في إحدى قصائده فيأتي بالوزن المختلف وينوع في القافية، محاكيا الشعر الإفرنجي، فعسى أن يمعن في جرأته في هذا المسلك المجدد لعله يوفق إلى أثر في شعر اليوم، فالشكوى صارخة على أن الشعر الربي قد احتفظ بجموده في الطريقة مدة أطول مما كان ينتظر من النهضة الحديثة إن هذه الباكورة التي قدمها لنا صاحب الديوان تحدثنا عن موهبة فيه، وان كانت روعتها مخبوءة في اثر هذه البراعم - بحيث تضيق أبياته عن روحه المهتاجة وستكشف الأيام عن قوتها، ولا أريد أن أرسم منهجا مستقبلا لهذه القريحة الأصيلة تتفجر وتفيض من غير أن تخضع لحدود والقيود، ولكن سير الشعراء تعلمنا أن ذوي المواهب الناجحين، هم الذين تعبوا كثيرا، وعالجوا نفوسهم بأقصى الجهد، وكافحوا كفاح الأبطال، حتى بلغوا مرتبة الخلود ويتخرج السياب ويعين مدرسا للغة الإنجليزية في مدرسة ثانوية في مدينة الرمادي التي تبعد عن بغداد تسعين كيلومترا غربا، تقع على نهر الفرات. وظل يرسل منها قصائده إلى الصحف البغدادية تباعا، وفى يناير ١٩٤٩ ألقي عليه القـبض في جيكور أثناء عطلة نصف السنة ونقل إلى سجن بغداد واستغني عن خدماته في وزارة المعارف رسميا قي٢٥ يناير ١٩٤٩ وافرج عنه بكفالة بعد بضعة أسابيع ومنع إداريا من التدريس لمدة عشر سنوات، فعاد إلى قريته يرجو شيئا من الراحة بعد المعاملة القاسية التي لقيها في السجن ثم توجه إلى البصرة ليعمل (ذواقة) للتمر في شركة التمور العراقية، ثم كاتبا في شركة نفط البصرة، وفى هذه الأيام ذاق مرارة الفقر والظلم والشقاء ولم ينشر شعرا قط، ليعود إلى بغداد يكابد البطالة يجتر نهاراته في مقهى حسن عجمي يتلقى المعونة من أصحابه اكرم الوتري ومحي الدين إسماعيل وخالد الشواف، عمل بعدها مأمورا في مخزن لإحدى شركات تعبيد الطرق في بغـداد وهكذا ظل يتنقل من عمل يومي إلى آخر، وفى عام ١٩٥٠ ينشر له الخاقاني مجموعته الثانية (أساطير) بتشجيع من أكرم الوتري مما أعاد إلى روحه هناءتها وأملها بالحياة، وقـد تصدرتها مقدمة لبدر أوضح فيها مفهومه للشعر الجديد الذي يبشر به ويبدأ بدر بكتابة المطولات الشعرية مثل أجنحة السلام واللعنات وحفـار القـبور والمومس العمياء وغيرها ويضطرب الوضع السياسي في بغداد عام ١٩٥٢ ويخشى بدر أن تطاله حملة الاعتقالات فيهرب متخفيا إلى إيران ومنها إلى الكويت بجواز سفر إيراني مزور باسم (على آرتنك) على ظهر سفينة شراعية انطلقت من عبادان في يناير ١٩٥٣، كتب عنها فيما بعد قصيدة اسمها فرار ١٩٥٣ وهناك وجد له وظيفة مكتبية في شركة كهرباء الكويت حيث عاش حياة اللاجئ الذي يحن بلا انقطاع إلى أهله ووطنه، وهناك كتب أروع قصائده غريب على الخليج يقول فيها:
مازلت اضرب، مترب القدمين أشعث في الدروب تحت الشموس الأجنبية مـتخافق الأطمار أبسط بالسؤال يدا نديه صفراء من ذل وحمى ذل شحاذ غريب بين العيون الأجنبية بين احتقار، وانتهار، وازورار.. أوخطيه والموت أهون من خطيه من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية قطرات ماء.. معدنية
السيــرة الادبيـــة
تنوعت سيرة السياب الادبية واهتمت بالرومانسة والقضايا الانسانية وادخل اليها الثقافة الانكليزية فاتسم شعره في الفترة الأولى بالرومانسية وبدا تأثره بجيل علي محمود طه من خلال تشكيل القصيد العمودي وتنويع القافية ومنذ ١٩٤٧ انساق وراء السياسة وبدا ذلك واضحا في ديوانه أعاصير الذي حافظ فيه السياب على الشكل العمودي وبدأ فيه اهتمامه بقضايا الإنسانية وقد تواصل هذا النفس مع مزجه يثقافته الإنجليزية متأثرا بإليوت في أزهار وأساطير وظهرت محاولاته الأولى في الشعر الحر وقد ذهبت فئة من النقاد إلى أن قصيدته "هل كان حبا" هي أول نص في الشكل الجديد للشعر العربي وما زال الجدل قائما حتى الآن في خصوص الريادة بينه وبين نازك الملائكة، ومن ثم بينهما وبين شاذل طاقه والبياتي.وفي أول الخمسينات كرس السياب كل شعره لهذا النمط الجديد واتخذ المطولات الشعرية وسيلة للكتابة فكانت "الأسلحة والأطفال" و"المومس العمياء" و"حفار القبور" وفيها تلتقي القضايا الاجتماعية بالشعر الذاتي. مع بداية الستينات نشر السياب ديوانه "أنشودة المطر" الذي انتزع به الاعتراف نهائيا للشعر الحر من القراء وصار هو الشكل الأكثر ملائمة لشعراء الأجيال الصاعدة وأخذ السياب الريادة بفضل تدفقه الشعري وتمكنه من جميع الأغراض وكذلك للنفس الأسطوري الذي أدخله على الشعر العربي بإيقاظ أساطير بابل واليونان القديمة كما صنع رموزا خاصة بشعره مثل المطر، تموز، عشتار، جيكور قريته التي خلدها. وتخللت سنوات الشهرة صراعات السياب مع المرض ولكن لم تنقص مردوديته الشعرية وبدأت ملامح جديدة تظهر في شعره وتغيرت رموزه من تموز والمطر في "أنشودة المطر" إلى السراب والمراثي في مجموعته "المعبد الغريق" ولاحقا توغل السياب في ذكرياته الخاصة وصار شعره ملتصقا بسيرته الذاتية في "منزل الأقنان" و"شناشيل ابنة الجلبي". سافر السياب في هذه الفترة الأخيرة من حياته كثيرا للتداوي وكذلك لحضور بعض المؤتمرات الأدبية وكتب في رحلاته هذه بوفرة ربما لاحساسه الدفين باقتراب النهاية. توفي عام ١٩٦٤م بالمستشفى الأميري في الكويت، عن 38 عام ونقل جثمانه إلى قضاء البصرة ودفن في مقبرة الحسن البصري في مدينة الزبير
دواوينـــــــــــــــه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق